“من هو الدكتور محمد قشوة؟ سيرة عبقري التخطيط العمراني ومهندس المدينة المنورة”
"من هو الدكتور محمد قشوة؟ سيرة عبقري التخطيط العمراني ومهندس المدينة المنورة"

“من هو الدكتور محمد قشوة؟ سيرة عبقري التخطيط العمراني ومهندس المدينة المنورة”
كتب عمرو دسوقي هريدي
في “أخبار الشعوب”، نؤمن أن وراء كل نهضة أمة، عقولًا صنعت الفارق وقلوبًا نبضت بالإخلاص والعلم. ومن هذا المنطلق، تسعى جريدتنا إلى تسليط الضوء على شخصيات علمية كان لها أثرٌ وبصمة في مجالاتها، لم تنل بعد ما تستحقه من تقدير أو عرفان.
نقدم لكم في هذه الزاوية، ولأول مرة، سِيَر نادرة لعلماء ومفكرين ومهندسين ومبدعين، كان لعطائهم دور محوري في بناء أوطانهم وخدمة الإنسانية. فهدفنا ليس فقط سرد التاريخ، بل إحياء القدوة وإلهام الأجيال.
فحين بدأنا في البحث عن الشخصيات التي أثرت في تاريخ بلدنا ، مصر، اكتشفنا أن هذه البلد لا تنضب من العقول اللامعة التي صنعت الفارق وخلدت أسماءها في ذاكرة أبنائها. ولكن اليوم نحن أمام شخصية استثنائية، ليست كأي شخصية أخرى. أمام رجلٍ جمع بين العلم والإنسانية، وتبوأ مكانةً في قلب التاريخ لا يمكن نسيانها. إنه الأستاذ الدكتور المهندس “محمد إبراهيم السيد قشوة “، ابن قرية الرملة بمحافظة القليوبية ، صاحب الإرث العلمي والتخطيطي الذي ترك بصماته في أرجاء عديدة من العالم.
– عالم رباني ومهندس بوصلة العمران
يعتبر الدكتور قشوة نموذجاً نادراً يجمع بين التفوق العلمي والخلق الرفيع. وُلِد عام 1941 في قرية الرملة التابعة لمركز بنها في محافظة القليوبية، حيث نشأ في بيئة صوفية وأخلاقية، واهتم بحفظ القرآن الكريم منذ صغره. ومن ثم، التحق بالأزهر الشريف، حيث انطلق في رحلة علمية متفوقة جعلته محط أنظار زملائه وأساتذته.
انتقل بعد ذلك إلى عزبة المنياوي في قرية ميت عاصم بالقليوبية ، ولكن قلبه بقي معلقًا بقريته الأم الرملة، حيث كان دائم البر بأهله، كما كان يفتخر دائما بعلاقته الوطيدة بوالديه وأسرته.
– سمات بارزة لشخصيته منذ الصغر
التحق الدكتور قشوة بكلية الهندسة – جامعة الأزهر، حيث تميز بتفوقه الأكاديمي وحصل على بكالوريوس الهندسة بتقدير “امتياز” عام 1969، ليُعيّن معيدًا بها، ثم نال الماجستير في التخطيط العمراني والإقليمي بتقدير “امتياز” عام 1972. وفي عام 1976، تم ترشيحه لبعثة علمية إلى ألمانيا، حيث التقى بمعلمه المشرف على رسالته في جامعة “هانوفر” الألمانية، وكان السؤال الذي طرحه عليه بمثابة اختبار حقيقي:
“هل تريد علمًا أم لقبًا؟ إذا اخترت اللقب، يمكننا منحه لك وتعود إلى وطنك، أما إذا اخترت العلم، فعليك بالصبر والمثابرة.”
اختار الدكتور قشوة العلم، فكانت تلك اللحظة فارقة في حياته العلمية. وعكف على تعلم المزيد من خلال مكتبة أستاذه، ليقضي ثماني سنوات في ألمانيا، ظل خلالها سفيرًا للأخلاق الإسلامية، حتى أثر في المحيطين به بسلوكه النبيل.
نال درجة الدكتوراه في الفلسفة في التخطيط الإقليمي والعمراني بتقدير ” إمتياز ” عام ١٩٨٤ ، وعاد إلى مصر حاملًا رسالة علم ومعرفة، جعل منها صدقة جارية في حياة طلابه.

– معلم أجيال… وأب رحيم لطلابه
لم يكن الدكتور قشوة مجرد أستاذ جامعي، بل كان أبًا لجميع طلابه. فقد كان يطبع كتبه على نفقته الخاصة ويوزعها عليهم مجانًا، ويقدم لهم الدعم العلمي والإنساني في جميع الأوقات. كانت تربطه علاقة مميزة مع طلابه، حيث كان يلقونه تحية طيبة عندما يلتقون به في الطريق، ويقبلون يده تعبيرًا عن محبتهم وتقديرهم له.
– التوازن بين العقل والجسد
إلى جانب تفوقه العلمي واهتمامه بالدين، كان الدكتور قشوة رياضيًا من الطراز الأول. كان يعشق كرة السلة، وشارك في العديد من المباريات المحلية والدولية ممثلًا لجامعة الأزهر. ولم يكن اهتمامه بالرياضة محصورًا في المشاركات، بل كان يواظب على ممارستها بشكل مستمر، مما يعكس توازنًا رائعًا بين العقل والجسد.
– فخر القليوبية… في خدمة الوطن والأمة الإسلامية
لقد ترك الدكتور قشوة بصمات واضحة في تخطيط العديد من القرى المصرية، وشارَك في تطوير النسيج العمراني للريف المصري، وامتدت جهوده إلى المملكة العربية السعودية حيث ساهم في تخطيط المدينة المنورة بالكامل، بالإضافة إلى مكة المكرمة، منطقة عسير، والقصيم. وقد كان له دور بارز في إعداد المخطط الإقليمي للمنطقة الشرقية، والذي شمل العديد من المدن الكبرى مثل الدمام، الأحساء، وحفر الباطن.
– الريادة في مشروع مفيض توشكى
ومن أبرز إنجازاته العلمية كان ريادته في تقديم أول دراسة متكاملة لمشروع مفيض توشكى، حيث كان من الأوائل الذين رأوا في هذا المشروع فرصة لتنمية المنطقة بشكل مستدام، ليس فقط من خلال تصريف المياه، بل من خلال استغلال المياه المتدفقة من بحيرة ناصر لتطوير الزراعة والعمران في الصحراء الغربية.
وقد عبّر عن هذه الرؤية في أحد اقتباساته الملهمة قائلاً:
“لم أنظر إلى مفيض توشكى كقناة لتصريف المياه فقط، بل كنافذة أمل لخلق حياة جديدة في عمق الصحراء… إذا أُحسن التخطيط له، فبإمكانه أن يتحول إلى شريان تنمية يربط جنوب الوادي بامتداد عمراني وزراعي واقتصادي قادر على تغيير الخريطة السكانية لمصر.”
فاليوم، بينما تنفذ الدولة المصرية مشروع “توشكى الخير” على أرض الواقع، تظل إسهامات الدكتور قشوة مرجعًا مهمًا، ودليلاً على بُعد نظره، وصدق انتمائه لمستقبل هذا الوطن.

– حياة خاصة متواضعة… وعائلة من أهل الفضل
رغم المكانة العلمية الكبيرة التي وصل إليها، ظل الدكتور قشوة متواضعًا في حياته الخاصة. عاش حياة بسيطة، وأُثِرَ عن أبناءه أنهم تربوا على القيم الأزهريّة النبيلة بنين وبنات ، حيث أنجب النقيب إبراهيم قشوة، شهيد الواجب الوطني، وطبيب الإنسانية الدكتور أنس قشوة.
– درسٌ من قشوة… للشباب
إن حياة الدكتور قشوة هي درس حقيقي لكل شاب يسعى وراء اللقب والشهرة دون أن يلتفت إلى قيمة العلم الحقيقي. كان نموذجًا للمثابرة، والتواضع، والصبر، وكان مثالاً حيًا على كيفية تحويل الإيمان بالعلم والأخلاق إلى قوة مغيرة في المجتمع.

– الرحيل في يوم الطيبين
رحل الدكتور محمد إبراهيم السيد قشوة عن عالمنا يوم الجمعة 26 يوليو 2019، يوم اختاره الله ليجمع فيه أحبائه. لكن سيرته ستظل حية في قلوب من عرفوه، وعلمًا يُنتفع به من أجيال قادمة، ودرسًا في التفاني والصدق.
إن مصر ، ذلك المهد الذي أخرج أحد أبرز علمائها، تظل تفتخر بأنها أنجبت هذا الرجل العظيم الذي رفع اسمها عاليًا في مجالات التخطيط العمراني والعلم، وأصبح مصدر فخر ليس لأبناء مصر فقط، بل للعالم العربي والإسلامي أجمع.
رحم الله الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم قشوة، وجعل علمه في ميزان حسناته، وجعل من سيرته منارًا تهتدي به الأجيال.
