مقالات

الحبُّ عندنا… سجينٌ لا ذنب له

الحبُّ عندنا… سجينٌ لا ذنب له

محمد لطيفي Mohamed LETIFI

الحبّ عندنا يشبه نورًا خجولًا يحاول الانبثاق من خلف جدارٍ سميكٍ من العادات، يمدّ يده نحو الهواء، لكن الأيدي تُسارع لرده إلى الداخل وكأن النور عارٌ إذا خرج. في مجتمعاتنا العربية، يُولد الحبُّ وفي عنقه سلسلة غير مرئية، سلسلة صنعتها أجيالٌ خافت من المشاعر كما تخاف من النار، فظنّت أن النجاة في إطفاء القلوب لا في تهذيبها. تعلّم البنتُ منذ صغرها أن كلمة “أحبّ” ليست مجرد شعور، بل صفّارة إنذار تُربك العالم من حولها، كلمةٌ يجب أن تُدفن في صدرها كما تُدفن الأسرار المحرمة. ويُربّى الابن على أن العاطفة ضعف، وأن الاعتراف بالقلب جرح للرجولة، وأن الجدار العالي بينه وبين الحبّ هو دليل النضج، بينما الحقيقة أن الناضج هو من يملك قلبًا حيًا لا قلبًا محنطًا. هكذا نشأنا: نخجل من أجمل ما زرعه الله فينا، نخاف من شيءٍ خُلق لنكون به بشرًا، لا آلات تُصنف المشاعر ضمن الممنوعات. في عالمنا، يُعامل الحبّ كما يُعامل السجين السياسي: يُراقَب، يُكمّم، يُعاقَب، يُقاد إلى الهامش حتى لو كان بريئًا، حتى لو كان وجوده ضرورة روحية لا تقل عن ضرورة الهواء للرئتين. نُفكّر ألف مرة قبل أن ننطق بمشاعر أو نكتب رسالة أو نبوح بقلب، لأن المجتمع لا يسأل: “هل أحببت بصدق؟” بل يسأل: “من رآك؟ متى؟ كيف؟ ولماذا شعرت أصلًا؟”. وهكذا يتحوّل الحبّ إلى جريمة مكتملة الأركان، لا لشيءٍ إلا لأنه خرج قبل موعد “الزواج”، وكأن الله وضع للحبّ تاريخ صلاحية لا يبدأ إلا يوم العقد. والغريب أننا نتمسّك بهذا الخوف باسم الدين، رغم أن الدين هو أول من علّمنا أن القلوب بيد الله، وأن الرحمة أصل الوجود، وأن النية الصادقة لا تُعاقَب. الدين لم يقل يومًا إن الحبّ عيب، بل قال إن الفاحشة عيب، ونحن خلطنا بينهما كما يخلط من لا يرى الفرق بين الماء والطوفان. الغرب ليس كاملًا ولا أنقى منّا، لكنه على الأقل أعطى الحبّ حقّه الطبيعي: حرية أن يتنفس. الحبّ هناك لا يمشي متخفيًا، لا يخفض رأسه، لا يرتجف من عيون المارة، لا يختبئ في الرسائل المحذوفة والمكالمات المقطوعة. هناك، القلب كتابٌ مفتوح، ليس لأنه بلا قيود، بل لأنه لا يخجل من وظيفته، فهو مخلوقٌ ليحبّ، تمامًا كما العين مخلوقة لترى. أمّا نحن، فالقلب عندنا صفحة مطوية سبع مرات، ومن يفتحها يُعدُّ مجنونًا أو متمرّدًا أو قليل الحياء. كم من قصة حبّ وئدت في بدايتها لأنها “لا تناسب الجوّ العام”! وكم من قلبٍ صادقٍ عاش عمره كله وحيدًا لأنه لم يُسمح له أن يعترف! نحن أمّة عظيمة… لكننا ضعفاء أمام كلمة “أحبّك”. نخشى أن تهزّ العروش الصغيرة داخل بيوتنا، نخشى أن ينكسر الصمت الذي توارثناه، نخشى أن نصبح أكثر بشرية مما اعتدنا. ومع ذلك، لا يزال الحبّ في قلوبنا حيًا، يتنفس في الظل، يرفض أن يموت رغم كل ما فرضناه عليه من قوانين. لا يزال الحبّ طفلًا يطرق باب الحياة، ينتظر من يفتح له دون خوف. والحقيقة التي لا نحب سماعها هي أننا لا نحتاج أن نتعلم من الغرب كيف نحب، بل نحتاج فقط أن نتذكر ما نملك أصلًا: قلوبًا خلقها الله لتكون مضيئة لا مظلمة، صادقة لا مكبوتة، طاهرة لا مذعورة. الحبّ ليس هدمًا للأخلاق… بل هدمًا للخوف. ليس خروجًا عن الدين… بل خروجًا من السجن. وما دام الله لم يحرّم الشعور، فلا يحقّ لنا أن نحكم عليه بالإعدام. اتركوا الحبّ يتنفس.
فالقلب إذا سُجن، مات… وإن مات القلب، مات كل شيء.

محمد لطيفي Mohamed LETIFI
محمد لطيفي Mohamed LETIFI

نهى عراقي

نهى عراقي ليسانس أداب.. كاتبة وشاعرة وقصصية وكاتبة محتوى.. وأبلودر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى