مقالات

وهم أوروبا… حين يبتلع البحر أحلام العابرين

وهم أوروبا… حين يبتلع البحر أحلام العابرين

محمد لطيفي Mohamed LETIFI

في المدن العربية التي تضيق بأهلها، وفي الأزقة التي تحمل رائحة العرق والتعب والأمل، يولد حلم اسمه “أوروبا”. هناك، في المقاهي الصغيرة المليئة بالدخان والقصص الناقصة، يجلس شباب في مقتبل العمر يخطّون خرائط الخلاص على الطاولات الخشبية المهترئة، يتحدثون عن القارة البعيدة كما لو كانت كوكبًا من نور، لا يعرف الفقر ولا القيود ولا الانتظار. يبيع أحدهم هاتفه، وآخر دراجته، وثالث يستدين من قريبٍ بالكاد يملك قوت يومه، يجمعون المال كأنهم يشترون تذكرة إلى السماء. لا أحد يخبرهم أن البحر لا يفتح أبوابه لمن يحلم، بل يبتلع الأحلام واحدًا تلو الآخر، حتى يغدو الوصول ذاته لعنة لا نعمة.

يبدأ الوهم من فكرة أن أوروبا أرضٌ يلتقط الناس فيها المال من الشوارع، وأن الطريق هناك مفروش باليورو كما تُفرش الطرق بالورود في الأعراس. يظنون أن المرأة الأوروبية سهلة المنال، وأنها تُقدّم جسدها كما تُقدّم القهوة في المقاهي، وأن مجرد الوصول يعني بداية حياةٍ جديدةٍ بلا تعبٍ ولا قيود. لكنهم حين يصلون، إن وصلوا، يكتشفون أن الواقع ليس كما في الحكايات التي كانوا يروونها لأنفسهم على الأرصفة. فالأرض التي حلموا بها لا تُعطي إلا من تعب، ولا تفتح ذراعيها إلا لمن يحمل علماً أو حرفة أو صبرًا لا ينفد.

في البداية تكون الصدمة، ثم تأتي الحيرة، ثم الخوف. من لا يحمل شهادةً تعليمية أو لغةً قوية يجد نفسه في الهامش، يعمل في المزارع أو الورش أو في أعمالٍ لا تليق بإنسانيته، لكنه يقبل بها مضطرًا لأن الجوع لا يعرف الكرامة حين يطرق الأبواب. يعيش في غرفٍ مكتظة، ينام على خوفٍ ويستيقظ على قلق، لا يجرؤ على السير بحرية لأن الشرطة قد تسأله عن أوراقه، والأوراق هناك هي الحلم الجديد، أغلى من الجواز نفسه. يبدأ في البحث عنها كما يبحث الغريق عن الخشبة، فيلجأ البعض إلى الزواج الأبيض، لا حبًّا بل حاجة، زواجٌ بلا دفء، يشتري فيه الإقامة بثمنٍ من روحه. آخرون يسلكون دروب التزوير، يشترون أوراقًا مزيفة يختبئون خلفها، يعيشون في قلقٍ دائمٍ من لحظةٍ يسمعون فيها طرق الباب معلنًا نهاية اللعبة.

ومع الزمن، حين يضيق الحبل، يبدأ الانزلاق إلى الظلال. فاليوم الذي لا تجد فيه عملًا، والغد الذي لا يحمل وعدًا، يدفع البعض إلى أعمالٍ لا قانونية: بيع السجائر المهربة في الأزقة، أو ترويج المخدرات الخفيفة في الزوايا المظلمة، أو التسول بطريقةٍ متقنة أمام محطات القطار، أو التحايل على المساعدات الاجتماعية بخداعٍ يتقنه البؤس. يتحول الحلم الأوروبي شيئًا فشيئًا إلى كابوسٍ من الخداع الذاتي، حيث يضطر المرء أن يسرق ليأكل، أو يكذب ليبقى. وحينها يفقد المهاجر غير الشرعي ليس ماله فقط، بل ملامحه الأولى، وإنسانيته التي عبر البحر لأجلها.

تبدأ أوروبا التي كانت في الخيال جنّة، في انكشاف وجهها الواقعي: بلادٌ تحترم القانون حتى القسوة، لا ترى في المهاجر غير الشرعي إلا رقمًا مجهولًا في نظامٍ لا يرحم. وحين يحاول أحدهم العودة إلى وطنه، يعود غريبًا؛ لا الوطن يعرفه، ولا أوروبا تقبله. يعود بجيبٍ فارغٍ وصمتٍ ثقيل، يخفي خيبته تحت ابتسامةٍ زائفة أمام أصدقاءٍ ينتظرون منه سيارة فارهة وامرأة شقراء وهالة من نجاحٍ كاذب. لكنه وحده يعرف الحقيقة: أنه لم يكسب شيئًا سوى تعبٍ أكل ملامحه، وغربةٍ لا تنتهي.

المأساة الحقيقية ليست في الهجرة، بل في الصورة التي صنعناها عنها. فالهجرة في جوهرها ليست خطيئة، لكنها تتحول إلى مأساة حين تكون بلا علمٍ ولا لغةٍ ولا خطةٍ واضحة. أوروبا ليست وطنًا للراحة، بل أرضٌ لا تزرع إلا بالكدّ والعرق، ولا تثمر إلا للصابرين الذين يواجهون الحياة لا الذين يهربون منها. أما من يظن أن الطريق هناك مفروشٌ بالسهولة، فسيجد نفسه في متاهةٍ من الضياع، يدور فيها حتى ينسى من أين بدأ.

إن الفردوس لا يوجد على الخريطة، بل في الطريقة التي نعيش بها حياتنا. الكرامة لا تأتي من عبور البحر، بل من الصدق مع الذات. ومن ظن أن الهروب خلاص، لم يفهم بعد أن الجحيم لا يُقاس بالمكان، بل بالاختيار. فكم من مهاجرٍ نجا من الغرق لكنه مات غريبًا، وكم من باقٍ في وطنه عاش فقيرًا لكنه ظلّ واقفًا على أرضه مرفوع الرأس.

الهجرة ليست حلمًا صغيرًا ولا جريمةً كبيرة، لكنها قرارٌ مصيري لا يليق بالعشوائية. أوروبا لا تعطي أحدًا أكثر مما يستحق، والوطن لا يرحم من هجره ثم عاد بخيبة. وبين الضفتين، يبقى البحر شاهدًا على أكبر مأساة عربية معاصرة: أجيالٌ حلمت بالفردوس، فاكتشفت أن الطريق إليه يبدأ من داخلها لا من وراء الموج.

محمد لطيفي Mohamed LETIFI
محمد لطيفي Mohamed LETIFI

نهى عراقي

نهى عراقي ليسانس أداب.. كاتبة وشاعرة وقصصية وكاتبة محتوى.. وأبلودر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى