الدم المتصدع تأملات في وحدة الإخوة وثمن الخصام
الدم المتصدع تأملات في وحدة الإخوة وثمن الخصام
بقلم الإعلامية: نرجس قدا
في زمن تتسارع فيه وتيرة الصراعات الداخلية، يبرز سؤال فلسفي عميق يلخص مأساة الإنسانية المعاصرة: كيف يمكن للدم أن يتخاصم مع نفسه؟ كأنَّ الدمَ حينَ يتَخاصَمُ، يَنطَفِئُ شيءٌ من الروح… فَما قيمةُ الوقوفِ إن تَعثّرَ من يُشبِهُك نِصفًا؟ وما معنى الإنتِصارِ إن كانَ على كَتفِ من يُشارِكُك الملامِح والذكرى والميلاد؟ هذه التساؤلات ليست مجرد كلمات شعرية عابرة، بل هي مرآة تعكس واقعًا مؤلمًا يعيشه مجتمعات كثيرة، حيث تتحول الخلافات بين أبناء الشعب الواحد إلى جروح تنزف لسنوات طويلة، وتُهدد بتآكل الأساسات الثقافية والاجتماعية التي بنتها الأجيال السابقة.
تخيلوا مشهدًا دراميًا: عائلة تتقاتل على ميراث مشترك، أو أصدقاء ينفصلون بسبب خلاف سياسي، أو حتى مجتمعات تتصارع على هوية واحدة. بين الإخوة يا صديقي لا توجدُ حروبٌ رابِحَة؛ فالرابِحُ خاسِرٌ، والخاسِرُ مكسورٌ، والقلوبُ كلُّها تنزِفُ من ذات الجهة. هذا الخصام ليس مجرد صراع فردي؛ إنه يمتد إلى الأنسجة الاجتماعية، يُضعف الروابط العائلية والقبلية، ويُفقد الثقة المتبادلة التي هي أساس أي تقدم. في دراسات نفسية حديثة، يُشير الخبراء إلى أن النزاعات الداخلية تُولد “صدمات جماعية” تستمر لأجيال، حيث يشعر الفرد بالفقدان لجزء من هويته كلما تعثر “الأخ” أو “النصف الشبيه”. يبقَى الأصلُ واحدًا: إن وقعََ أخوك، سقطَ فيكَ بَعضُك…وإن خاصَمتُه، خاصَمتَ ما تَبقّى من صدرك.
ومن الناحية التاريخية، شهدت البشرية أمثلة عديدة على كيف يُدمر الخصام الداخلي الأمم. في العصور الوسطى، أدت الفتن بين القبائل العربية إلى ضعف أمام الغزوات الخارجية، مما أدى إلى سقوط إمبراطوريات كانت قوية بفضل وحدتها. اليوم، في عصر العولمة، يتكرر السيناريو بأشكال أكثر تعقيدًا: الاستقطاب السياسي يُقسم المجتمعات، والتوترات الاجتماعية تُشعل فتائل التمردات، وكل ذلك يُعيق التنمية الاقتصادية والثقافية. على سبيل المثال، في بعض الدول النامية، أظهرت تقارير منظمات دولية أن النزاعات الداخلية تُكلف الاقتصاد مليارات الدولارات سنويًا، ليس بسبب الدمار المادي فحسب، بل بسبب فقدان الإنتاجية والابتكار الناتج عن التوتر النفسي. الرابح هنا ليس من يحوز على السلطة، بل هو الخاسر الأكبر، إذ يفقد الجميع جزءًا من روحهما المشتركة.
لكن، هل هناك أمل في إصلاح هذه الشقوق؟
بالتأكيد، فالإنسانية مليئة بقصص التصالح التي غيرت مسار التاريخ. السلام بين الإخوة يبدأ من الاعتراف بالألم المشترك، ويستمر عبر حوارات بناءة تُعيد بناء الجسور. في تجارب ناجحة مثل تلك التي شهدتها بعض الدول الأوروبية بعد الحروب العالمية، أثبتت المبادرات الثقافية والتعليمية أن التركيز على القيم المشتركة – مثل اللغة والتراث – يمكن أن يُعيد الوحدة. يجب أن نُدرّس الأجيال الجديدة أن الاختلاف ليس عدوًا، بل فرصة للنمو، وأن الوقوف معًا أقوى من أي انتصار وهمي. الان الإخوة هم الوريث الوحيد للأرض والذاكرة؛ إذا خسرناهم في خصامنا، نخسر أنفسنا تمامًا.
دعونا نُنهِ هذا التأمل بدعوة للتفكير: هل حان الوقت لنقول كفى للنزيف الداخلي، ونبدأ في إعادة بناء الروابط قبل فوات الأوان؟ الدم الواحد يستحق أكثر من الخصام؛ يستحق الحياة الكاملة.





