وما الحب إلا للحبيب الأول
وما الحب إلا للحبيب الأول
محمد لطيفي Mohamed LETIFI
كنتُ أظنّ أن القلب حين يكبر يتغيّر، وأن الإنسان يستطيع أن يطوي صفحة ويكتب غيرها، وأن الماضي كلما ابتعد صار أضعف، حتى اكتشفت أن بعض الصفحات لا تُطوى، وأن أول حب لا يشيخ مهما تقدّم العمر، وأن هناك لحظات ليست ذكريات بل أرواحًا صغيرة تعيش فينا، تتحرك معنا، وتتنفّس معنا، حتى وإن ظننا أنها نامت إلى الأبد. فالحب الأول ليس حكاية تبدأ وتنتهي، بل هو الزمن الوحيد الذي مرّ على القلب دون أن يرتدي قناعًا ودون أن يتعلم الخوف. يبدأ كل شيء من طفولةٍ لا يعرف القلب فيها إلا نقاءه؛ بنت الجار تمرّ بخجلٍ على الرصيف فنرتبك ولا نعرف لماذا، زميلة الصف تقرأ جملة فنسمعها نحن كأنها موسيقى لا يسمعها أحد سوانا، ابنة العم تضحك فتتغيّر الدنيا ولا نفهم كيف تغيّرت. تلك التفاصيل الصغيرة التي لم نكن نفهمها كانت بذور حب حقيقية، حب لم نكن نعرف اسمه لكننا كنّا نعرف إحساسه. ثم نكبر قليلًا، ونقترب من سنوات الشباب الأولى، تلك السنوات التي يكون فيها القلب شجاعًا بما يكفي ليحلم، وخائفًا بما يكفي ليصمت. هناك، عند البحر، يحدث اللقاء الذي لا يتكرر. نذهب إلى الشاطئ بحثًا عن هدوء، فنجد فتاة تمشي فوق الرمل وكأن الموج كان ينتظر خطواتها. لم تنظر إلينا طويلًا، مجرد لحظة واحدة، لكن تلك اللحظة كانت كافية ليدخل الضوء إلى القلب. ابتسامة قصيرة، نظرة عابرة، وخطوة تتبعها خطوة… ثم رحيل يترك وراءه سؤالًا يعيش معنا إلى آخر العمر: ماذا لو قلت لها كلمة؟ ماذا لو اقتربت؟ ماذا لو لم أترك الموج يمحو أثر تلك اللحظة؟ تمرّ السنوات، وتبدأ حياة جديدة، نتزوج، نبني بيتًا، نكوّن عائلة، نعيش كما يجب أن يعيش الإنسان، نحترم زوجاتنا ونقدّر ما بيننا وبينهن من مودة ورحمة… لكن رغم كل ذلك، يبقى في القلب مكان صغير لا يعرفه أحد، باب لا يفتحه إلا الليل حين تعود أنت إلى نفسك. ترى منذر الماضي القديم يطلّ من زاوية الذاكرة كأنه لم يرحل، ليس ليأخذك من حياتك، بل ليذكّرك بأنك كنت إنسانًا يستطيع أن يشعر دون خوف، وأن يحب دون قناع، وأن يتنفّس دون حسابات. لا أحد يحنّ للحب الأول لأنه يريد العودة إليه، بل لأنه يريد العودة إلى نفسه القديمة؛ إلى ذلك الصدق الذي لم يعد كما كان، إلى تلك البراءة التي اختفت، إلى ذلك القلب الذي لم تُثقله الخيبات بعد. ولذلك، مهما مرّ الوقت، يبقى الحبيب الأول هو الاسم الذي لا يقال، الظلّ الذي لا يغادر، السؤال الذي لا تُجاب عنه، الومضة التي لا تنطفئ، الحلم الذي لا يكتمل، لكنه أيضًا لا يموت. هو النسخة الأولى من قلبك، النسخة التي لم تتلوث، النسخة التي لم تخف، النسخة التي كانت تبكي وتضحك دون أن تخجل من نفسها. وما الحب إلا للحبيب الأول… لأنه الحب الوحيد الذي لم تُفسده التجارب، ولم تُشوّهه الأيام، ولم ينجح الزمن في أن يطفئه، ولأنه الوحيد الذي إذا عدت إليه—ولو في خيالك—عدت إلى الشخص الذي كنت تتمنى لو بقيت عليه.




