الأدب في مواجهة الذكاء الاصطناعي

الأدب في مواجهة الذكاء الاصطناعي
بقلم د. أمل درويش
لاشك أننا أصبحنا نعيش في حالة من التطور المذهل، ذاك الذي لم يكن يداعب خيالات المبدعين قبل قرن من الزمان، ومهما خاضوا في الخيال لم تكن تبلغ أمانيهم وأحلامهم شطآن الذكاء الاصطناعي وغيره من تقنيات العصر الحديث.
وقد تأثر العالم بشتى مناحيه بهذه التطورات والمستحدثات، وأصبح تواجدها وأثرها على حياتنا واقع ليس منه فكاك.
وقد كنا حتى عصر قريب نرى الكاتب يعتزل عالمه، ينفصل عن كل ما حوله.. يستجدي الحروف أن تهبط.. يستمطر غيمات المشاعر علّها تجود بكلمات تطفئ ثورة الأفكار بداخله.. وربما أفلح مرة وربما خاض العديد من الحروب معها حتى يصلا معا إلى مرسى يعقدان فيه هدنة من هذه الأفكار التي تؤرقه وتقض مضاجع الأسئلة الحائرة بداخل عقله تنتظر الإجابات.
وهكذا تكون حياة الكاتب بين شد الأفكار وجذب الحروف، وعصيان الكلمات.. وبقايا إنسان يلقي بنفسه في خضم الحياة ليعايش بيئته ويرتب أولوياته حسب إيمانه بصدق رسالته في التعبير عن أوجاع المهمشين، وبث الأمل في نفوس الحائرين.
وتأتي كلمات أحدهم لتهوي بكل الثوابت، وتحيلنا إلى الحضيض وربما أقل.. فنصبح نسخا الكترونية مبرمجة متشابهين..
ولكن ماذا سيقدم لنا الذكاء الاصطناعي؟ هذا الذي تترك له عدة كلمات فيعيد ترتيبها وتنسيقها في مقاطع لتقرأها في النهاية بلا روح ولا أنفاس.
ويتبدل هذا النبض المتدفق من قلب يئن وروح تهدر ولا تنطفئ ثورتها إلا بانسكاب هذا السيل من الكلمات فوق السطور، ليصبح في هذا العالم المميكن مجرد كلمات مبتورة الشعور باردة الأوصال، معدومة الروح، دمى بلاستيكية تتخايل أمام أعين القارئ، لا تبعث في النفس السرور ولا تخطفك لتجوب معها رياض الخيال أوتطوف بك فوق السحاب.
لا نُنكر السرعة التي يمكن للكاتب أن يقدم فيها عملا كل شهر، وربما عملا كل يوم؛ فالسرعة باتت ديدن هذا العصر، والوقت أصبح يمضي كالبرق إن لم تخطف الثانية تغير العالم من حولك.
وباتت مقولة الوقت كالسيف من العصور العتيقة، لا تسمن ولا تُغني من جوع..
ولكن إذا كان تأليف الكتب بهذا اليسر فلماذا إذن نكتب؟ وهل بالفعل يمكن التخلي عن المؤلف في وجود برامج الذكاء الاصطناعي؟
إن فعل الكتابة ليس مجرد صفّ للكلمات على السطور، وضمها في صفحات بين دفتي كتاب، أو تجميعها في ملف الكتروني لتواكب آخر تطورات العصر لتظهر في شكل كتاب الكتروني..
إنها تراكم خبرات وانفتاح على الثقافات، وأمانة تقتضي تقديم الهادف والمفيد للمجتمع في الوقت الحالي وفي المستقبل للأجيال القادمة..
قد تكون برامج الذكاء مطلعة على جميع أفكارنا التي تجمعها من خلال البرامج التي نرتادها، والموضوعات التي نبحث عنها من خلال محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، وبقدرتها على تحليل البيانات تستطيع معرفة احتياجاتنا وتوجهاتنا، وهذا ما يفسر ظهور الكثير من الإعلانات أو المقاطع التي تتعلق بنفس الموضوع الذي تفكر فيه، وقد لا تحتاج أن تفصح بهذا الموضوع لأحد فتظن أن هذه البرامج تتسلل إلى ميكروفون تليفونك، ولكن للأسف إنها تسللت إلى عقلك وباتت تعلم ما تفكر فيه بل وتعرض عليك ما يناسب أفكارك وربما فرضت عليك اختيارات لم تكن ضمن توقعاتك؛ فمن السهل عليها أن توجهك إلى الاتجاه الذي تريده بعدما حللت شخصيتك وأدركت نقاط ضعفك.
إن الأمر لم يعد مجهولا، وليس بالسحر كما ادعى البعض في بداية هذا التطور المذهل، بل هي عمليات محسوبة بدقة تعتمد على قاعدة بياناتك االشخصية التي قدمتها لهذه البرامج دون قصد.
ولم يعد ينشغل الناس بفكرة سرقة بياناتهم، أو فكرة التجسس على أفكارهم واهتماماتهم؛ بل استسلموا لذلك طواعية، وصار البعض يرى ذلك ميزة جيدة تمنحه الفرصة أن يجد كل ما يبحث عنه بسهولة ويسر ودون عناء البحث حتى؛ فما إن تهمس الفكرة في خلده يجدها أمامه في هاتفه أو جهاز الكمبيوتر.
ومع مرور الوقت لم تعد برامج الذكاء مخصصة فقط لجمع البيانات أو تقديم معلومات البحث، بل أصبح دخولها في مجالات الحياة المختلفة أمرا عاديا لا يثير الدهشة، وبالتالي لم يعد هناك حاجة لجموع العمال في المصانع، أو المدرسين في المدارس، أو حتى الأطباء في المستشفيات.
ولم نشعر بأي غرابة حينما شاهدنا المذيعات الالكترونيات (الروبوت) وبذلك أصبح دور الإنسان هامشي، ولم نعد نحتاج إلا لعدد قليل من البشرالقادرين على تنسيق العمل والتحكم في هذه البرامج التي ستستطيع مع الوقت الاستغناء عن الإنسان تماما وإزاحته للعمل بمفردها.
وكم تراءت أمام عيناي لقطات الفيلم الأمريكي I robot حقيقة؛ فمنذ شاهدت هذا الفيلم للمرة الأولى وأنا أشعر بهاجس مخيف حين تتحول هذه اللقطات إلى واقع، وفي اعتقادي أننا لم نعد بعيدين عن هذه المرحلة.
لست من المؤمنين بنظريات المؤامرة، ولكننا جميعا نعلم أننا نستقبل فقط التكنولوجيا الحديثة ولا نستطيع تغييرها، وأن هذه التطورات لا تأتينا إلا بعد سنوات وربما عقود من التجارب والاستخدام السري قبل الظهور للعلن..
لذلك فدعونا نستعد للقادم بالتوعية وعدم التطبيق الأعمى، والتماسك أمام هذا الطوفان من التكنولوجيا الغير محسوبة العواقب، فالكتابة لم تكن يوما مجرد رفاهية، والعلم خلق لخدمة البشرية وليس لتدميرها..
الأدب في مواجهة الذكاء الاصطناعي
