مقالات

زمن التفاهة… حين ارتدى الغباء ثوب البطولة وصار الصخب تاجًا على رؤوس الجهلاء

زمن التفاهة

كتب عمرو دسوقي هريدي

في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتتشابه فيه الوجوه، وتغيب فيه البوصلة بين الصواب والزيف، تظل جريدة “أخبار الشعوب” منبرًا للكلمة الواعية، ومساحةً للنور وسط ضجيج العتمة. نكتب لا لنُرضي جمهور اللحظة، بل لنوقظ في الإنسان ضوء العقل، ونذكّره أن للحرف رسالةً أسمى من مجرد الصدى.
إننا نؤمن أن الصحافة ليست مجرد حروفٍ تُنشر، بل نبضُ وعيٍ، وصوتُ ضميرٍ، ومرآةٌ تُعيد للواقع ملامحه الحقيقية. ومن هذا المنطلق، نضع بين أيدي قرّائنا هذا المقال العميق الذي يسلّط الضوء على ظاهرةٍ باتت تلتهم الوعي وتغتال الذوق في زمنٍ اختلطت فيه الشهرة بالقيمة، والعريّ بالصراحة، والضوضاء بالحضور.في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتتشابه فيه الوجوه، وتغيب فيه البوصلة بين الصواب والزيف، تظل “جريدة «أخبار الشعوب”  منبرًا للكلمة الواعية، ومساحةً للنور وسط ضجيج العتمة. نكتب لا لنُرضي جمهور اللحظة، بل لنوقظ في الإنسان ضوء العقل، ونذكّره أن للحرف رسالةً أسمى من مجرد الصدى.
لم نكن نتصور أن يأتي يومٌ يصبح فيه الغباء نجم الساحة، والتفاهة سيدة المنابر، وأن يخرج الركام من الظلال ليجلس على العرش. كنا نظنها نزواتٍ عابرة، ضحكاتٍ قصيرة تمرّ كالسحاب، حتى فتحت لنا وسائل التواصل الاجتماعي نافذة على واقعٍ لم نكن نجرؤ على النظر في عينيه. كشفت لنا وجوهًا كانت تختبئ خلف أقنعة الأدب والعقل، فإذا بها تتسابق في مضمار السخف، وتحتفي باللاشيء كأنه فتحٌ عظيم.
فجأةً، صار الضجيج لغة العصر، وصار مَن يصرخ أكثر يُسمع أكثر، حتى لو كان صراخه بلا معنى. صعدت الأصوات الجوفاء إلى المنصات كفقاعات صابونٍ تلمع لحظةً ثم تتلاشى، بينما صمت الفكر في الزوايا، يلعق جراحه في زمنٍ لم يعد يقدّر الهدوء ولا العمق.
لقد تراجعت القيم كما يتراجع البحر عند الجزر، تاركةً شاطئًا مبللًا برواسب الرداءة. صار كل شيء قابلًا للبيع: الفكرة، والحياء، والذوق، وحتى الكلمة. كل ما تحتاجه لتصير “مؤثرًا” أن تثير ضجةً، أو تقلد سخافةً، أو تسخر من الآخرين. أما من يفكر، أو يكتب، أو يتأمل — فمكانه خارج الضوء، كمن يغني في صحراء لا أحد يسمع صوته.
تحولت المنصات التي وُلدت لتقرب المسافات إلى ساحةٍ كبرى للعبث، تُقام فيها حفلات الجنون يوميًا، يرقص فيها السخف على أنغام الإعجابات، ويُمنح الغباء أجنحةً ليطير بها فوق العقول. والمأساة أن الجمهور نفسه — الذي كنا نحسبه عاقلًا — صار يصفق بحماسةٍ لكل ما يُميت الذوق ويُميت معه العقل.
لسنا ضحايا التقنية، بل أسرى شغفٍ مريض بالظهور. كل هاتفٍ صار منبرًا، وكل إنسانٍ يظن نفسه نجمًا على مسرحٍ من الوهم. اختلط الضوء بالظلال، وتاهت الحقيقة بين صورٍ مُفلترة وكلماتٍ جوفاء. حتى الحدود بين ما يجب أن يُقال وما ينبغي أن يُدفن في الصمت، تهاوت أمام جيوش التفاهة التي تزحف كل يومٍ في وضح النهار.
ومن يراقب هذا المشهد يشعر أن الوعي العام يُغسل ببطء، كما تُغسل الألوان من لوحةٍ جميلة حتى لا يبقى سوى الرماد. حين يعتاد الناس المحتوى الفارغ، تضيق ذائقتهم حتى لا تتسع إلا للهزل. وحين يصير عدد المتابعين مقياس القيمة، يموت الإبداع وتُدفن الفكرة تحت أقدام الشهرة الزائفة.
لقد تحول الفضاء الرقمي إلى سوقٍ صاخبة، فيها كل شيء إلا القيمة. يتبارى الناس على الظهور كما يتبارى الغارقون على من يعلو وجه الماء أولًا، دون أن يدركوا أن الجميع في النهاية يطفو فوق سطحٍ من الفراغ.
ومع ذلك، لا يجوز أن نحمّل التقنية وحدها خطايا الإنسان؛ فهي لم تصنع الغباء، بل سلّطت الضوء عليه. ما نراه اليوم ليس سوى مرآةٍ تُري وجوهنا الحقيقية: هشاشة ثقافتنا، وضعف ذوقنا، وتهاوننا في مواجهة القبح حين كان بعدُ صغيرًا. كل إعجابٍ عابر نمنحه لتفاهةٍ، هو لبنةٌ في قصر الغباء. وكل صمتٍ تجاه السخف، هو تصفيقٌ خفيٌّ يمدّه بالعمر.
لكن، ورغم العتمة، يظل الأمل حيًا كجمرةٍ تحت الرماد. فما زال هناك من يزرع الكلمة الطيبة في أرضٍ صلبة، ومن يبحث عن المعنى وسط الغبار، ومن يكتب بصمتٍ ليوقظ فينا ما تبقّى من عقلٍ وضمير. الوعي لا يصرخ، لكنه يبقى كالنور — لا يُرى إلا حين ينطفئ كل شيء.
نعم، لولا وسائل التواصل لما اكتشفنا أن التفاهة تملك هذا الجيش الجرّار من المصفقين، لكنها في المقابل منحتنا مرآة نرى فيها حجم المعركة المقبلة: معركة استعادة الذوق، والعقل، والجمال.
ولعل البداية تكون حين نكسر أيدينا عن التصفيق للسطحية، ونكسر صمتنا عن الحق، وننحاز لما يبقى، لا لما يطفو.
حينها فقط… ننجو من الغرق في زمن التفاهة.

اقرأ ايضا :

دروس من مدرسة الحياة…
زمن تساقطت فيه القيم

 

زمن التفاهة... حين ارتدى الغباء ثوب البطولة وصار الصخب تاجًا على رؤوس الجهلاء
زمن التفاهة… حين ارتدى الغباء ثوب البطولة وصار الصخب تاجًا على رؤوس الجهلاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى