اللواء دكتور سمير فرج يكتب: حكاية سد النهضة (2)

اللواء دكتور سمير فرج يكتب: حكاية سد النهضة (2)
استكمالٌ لتلبية طلبات شباب الجامعات بمعرفة حقائق السد الإثيوبي ومستقبل مياه نهر النيل في مصر، فقد أوضحنا في مقال الأسبوع الماضي منبعي نهر النيل، الأول في الهضاب الحبشية وهو المنبع القريب نسبيا والمسئول عن فيضان النيل وهو منبع موسمي تتدفق مياهه صيفا وتجف شتاء، ثم المنبع البعيد لهضبة البحيرات الاستوائية العظمى منبع النيل الأبيض وهو دائم الجريان طوال العام، وكيف أن المنبعين منفصلين تماما وأن مياه كل منبع لا يمكن أن تذهب إلا إلى السودان ومصر فقط، ومع ذلك خدعت إثيوبيا باقي دول منابع النيل الأبيض بموضوع إعادة توزيع مياه النيل على الجميع وهو أمر مستحيل وضد الانحدار والخلق الطبيعي للنهر، وكان الغرض منه فقط استخدامهم لدعم إثيوبيا في السيطرة على مياه الأنهار الثلاثة التي تنبع من أراضيها وتمثل 85% من مياه النيل بحجم 72 مليار م3 مقابل 13 مليار م3 لتدفقات النيل الأبيض، وهو ماتم إيضاحه لهذه الدول لتستفيق من أسلوب الخداع الإثيوبي.
بدأت المفاوضات الرسمية عام 2011 فور وضع حجر أساس السد وضمت مصر والسودان مع الجانب الإثيوبي لمناقشة الأضرار التي يمكن أن تلحق بدولتي المصب من هذا السد الضخم المقام على منحدر على الحدود مع السودان وهو ذو السعة التخزينية الضخمة بحجم 74.5 مليار م3 في حالة انهياره أو انجرافه مع أي فيضان ضخم وما يمكن أن ينجم من تدفق هذا الحجم من المياه على مصر والسودان. وطلبت مصر تشكيل لجنة دولية من خبراء السدود والموارد المائية للحكم على سلامة أمان وثبات السد ثم احتمال تسببه في إلحاق الضرر بدولتي المصب سواء قائما (في السنوات العجاف) أو منهارا، وتأثير ذلك على السدود القائمة في السودان مثل سد الروصيرس القريب جدا من السد الإثيوبي ومن بعده سدي سنار على النيل الأزرق ثم مروي على النيل الموحد شمالًا لكونها سدودا صغيرة قليلة السعة التخزينية والتي يمكن أن تنهار مع أي أخطاء في تشغيل هذا السد مستقبلا.
وافقت إثيوبيا على تشكيل لجنة دولية لمعاينة السد وتحديد أضراره ومدى إمكانية منعها أو التعويضات اللازمة عن الأضرار المحتملة التي ستلحق بدولتي المصب، لكنها اشترطت استمرار العمل في السد أثناء عمل اللجنة مع إن هذا يتعارض مع التعديلات التي يمكن أن توصى بها اللجنة الدولية على السد لتلافي أو تقليل الأضرار. تم تشكيل لجنة من خبراء من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وجنوب أفريقيا، وكان من المفترض أن تنهي أعمالها في ستة أشهر ولكن بسبب التسويف والمماطلة الإثيوبية في تسليم الرسومات الهندسية والدراسات البيئية والاقتصادية والاجتماعية فقد أستمرت لعام ونصف وسلمت اللجنة تقريرها في مايو 2013. أدان التقرير السد وضعف رسوماته الإنشائية، كما أدان عدم وجود دراسات مسبقة عن تأثير السد على دولتي المصب ومجرى النهر، وبعدها تهربت إثيوبيا من تشكيل أي لجنة دولية لأنها تعلم أن سدها مخالف ومدان وبدون دراسات ولا يتبع الخطوات الأممية اللازمة لبناء السدود في بلاد منابع الأنهار وأصرت على أن تكون المفاوضات محلية فقط بين خبراء الدول الثلاث فقط لضمانها عدم وجود شهود دوليين على مخالفاتها، وتوقفت بعدها المباحثات.
استأنفت المفاوضات مرة أخرى عام 2015 واستمرت حتى نوفمبر 2022 دون الاتفاق على بند واحد لنظامي الملء والتشغيل للتوربينات بالمعدلات الدولية لضمان وصول معدلات المياه المعتادة من النيل الأزرق لمصر والسودان وطالبنا أن تضمن إثيوبيا حد أدنى من المياه تخرج سنويا من السد تماثل أو تقارب ما كان يشارك به النيل الأزرق في مياه نهر النيل قبل بناء السد. وطوال هذه السنوات كان من الواضح لوفدي مصر والسودان أن إثيوبيا تريد استنزاف الوقت في مفاوضات لا تنتهي أبدا وعمل في السد لا يتوقف، وليس لديها أي استعداد للتوقيع على اتفاقية تضمن حقوق دولتي المصب في مياه النهر وأنها تريد فقط إدارة السد منفردة والتحكم في مياه النيل الأزرق، دون اعتبار لكونه موردا مائيا مشتركا تكون عليه سيادة مشتركة وليس فردية، فلا ميز لإثيوبيا كونها دولة منبع ولا عيبا على مصر كونها دولة مصب ولا أن إثيوبيا تستمطر السحاب بتقنياتها، وليس كونه موردا طبيعيا من صنع الخالق.
استكملت إثيوبيا عمليات الملء بعد إيقاف المفاوضات وكان القدر رحيما على غير الإرادة الإثيوبية حيث جاء الفيضان عاليا بما منع حدوث أضرارا بدولتي المصب إلى أن أعلنت إثيوبيا في 9 سبتمبر2025 استكمال بناء السد وملء البحيرة بكامل سعتها، وأقامت احتفالية كبيرة بهذه المناسبة للاستهلاك المحلي فقط ومخاطبة الداخل الإثيوبي حيث لم يحضر الاحتفال إلا دولتان فقط من دول منابع النيل الاحدى عشر، بما يعني ضمنيًا عدم موافقتهم على هذا السد. كما لم يحضر من الدول الأفريقية إلا دولتان من أصل 55 دولة، وهو ما يوضح قوة وموضوعية الموقف المصري.
ولأن إثيوبيا ملأت بحيرة السد بأقصى سعة تخزينية مع بدايات سبتمبر فقط من أجل تصوير رئيس الوزراء الإثيوبي وخلفة البحيرة ممتلئة تماما بالمياه حيث لم تصرف أي قدر من المياه من السد لمصر والسودان خلال شهري يوليه وأغسطس، ومتناسية أن فيضان النيل الأزرق يستمر خلال سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وحتى ديسمبر، وأنهم لم يتركوا فراغات في بحيرة التخزين لتستوعب باقي مياه الفيضان.
وفي مقالي الأسبوع القادم نستكمل معًا باقي حكاية سد النهضة.




